حلف الناتو والربيع العربي

كلمة الأمين العام لحلف الناتو، أندرس فو رسموسِن، في منتدى الدبلوماسية الجديدة الذي استضافة معهد كارنِغي في أوروبا

  • 01 Jun. 2011
  • |
  • آخر تحديث 20-Sep-2011 12:43

Speech by NATO Secretary General, Anders Fogh Rasmussen

سعادة السفير كوسران Cousseran،
السّيد تيكو Techau
السّيد كوهين،
أيها السيدات والسادة،

أودّ البدء بالإعراب عن شكري على دعوتي لإلقاء كلمة اليوم في الجلسة الافتتاحية لـِ"منتدى الدبلوماسية الجديدة" في بروكسل. فهذه مبادرة طيبة في وقت مناسب. لذا، لا يسعني إلا أنْ أتوجّه بجزيل شكري إلى الرعاة الثلاثة لهذا الحدث، وهُم: الأكاديمية الدولية للعلاقات الدبلوماسية l'Académie Diplomatique Internationale والهيرالد تريبيون الدوليةInternational Herald Tribune  ومعهد كارنِغي في أوروبا Carnegie Europe.

كانت الشهور القليلة الماضية من أكثر الأشهر أحداثاً في حياتي. فقد شهدت موجة تحرّر ناشئة تجتاح الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ومن تونس إلى القاهرة إلى بنغازي، حطّمت الشعوب جدار الخوف كما حطّم جيلٌ آخر من الشجعان جدار برلين.

واختار هؤلاء الناس التغيير عبر التظاهر السلمي، وليس عن طريق التطرّف العنيف. كما اختاروا فكرة الحرية، بدلاً من ثقافة الخوف، وبرهنوا للعالم أنّ المستقبل في أيدي الشعوب.

وهناك اختلافات كبيرة وتحديات فريدة من نوعها في هذه المنطقة. وفي كلّ واحدة من دولها، ردّت السلطات بصورة مختلفة على التظاهرات الشعبية. فقد اتخذ بعضها إجراءات ملموسة لتلبية مطالب المواطنين، بينما أدرك بعضها الآخر أنّ وقته قد انتهى وتنحّى جانباً. لكنّ أنظمة أخرى ردّت على مطلب الحرية والكرامة بالعنف المفرط.

هنا، سأركّز على الأسئلة الثلاثة التالية: ما الذي تغيّر في هذه المنطقة؟ وما أهمية هذا التحول بالنسبة لحلف الناتو؟ وكيف يُمكننا أنْ نتعاون مع دول المنطقة من أجل تشكيل المستقبل؟

أولاً: ماذا تغيّر؟

هناك أجيال شابة تريد مستقبلاً أكثر إشراقاً. فمنذ سنوات عديدة وهؤلاء الشباب يسمعون عن النمو الاقتصادي من دون أن يستفيدوا منه؛ ويروْن الثروة ولا يحصلون على شيء منها؛ وحتى الانتخابات التي جرت في بعض دول هذه المنطقة لم تجلب الديمقراطية الحقيقية إليها. والآن، يريد الشباب في هذه المنطقة تغيير هذه الأمور الثلاثة.

لذا، ينبغي علينا عدم التقليل من شأن هذه اللحظة التاريخية – بالنسبة لنا جميعاً. فهذه بداية تحوّل طويل الأمد ومعقّد وعاصف، على الأرجح. وباعتقادي، سيُعيد هذا التحوّل تشكيل المنطقة والعالم خلال السنوات القادمة نحو الأفضل.

لذا، ينبغي علينا أنْ ندعم هذا التحوّل وأنْ ننظر إليه كفرصة حقيقية لبداية جديدة.

ولفترة طويلة، إعتقد الكثيرون أنه لا يمكن الجمع بين الاستقرار والديمقراطية في هذه المنطقة. لكنّ الرجال والنساء الذين خرجوا إلى الشوارع العربية أظهروا أنهم يريدون الاستقرار والديمقراطية في آنٍ معاً. فقد أرسلوا رسالة جليّة إلى حكوماتهم والعالم مفادها: إنّ الاستقرار على حساب تطلّعاتنا ليس استقراراً حقيقياً.

ذلك لأنّ الحرية ليست قيمة غربية فقط – بل هي قيمة عالمية.

وليست الحرية حكراً لأيّ أقلية – بل هي حقّ للجميع.

ولا ينبغي الخوف من الحرية أبداً – لأنها الضمانة المثلى للسلام المستدام.

لكنْ للأسف الشديد، ردّ بعض الحكومات على مطلب التغيير بالقمع، لا بالإصلاح.

ففي ليبيا، هاجم نظام القذافي شعبه بوحشية وبعنف ممنهجين. لكنّ المنطقة والعالم وقفا بحزم ضدّ ممارسات هذا النظام. فقد تبنّى مجلس الأمن الدولي القرار التاريخي رقم 1973 الذي أجاز اتخاذ جميع الإجراءات اللازمة لحماية المدنيين الليبيين. وبموجب هذا التفويض الأممي الواضح والصريح، تولى حلف الناتو قيادة جميع العمليات العسكرية في ليبيا بدعم قوي من دول المنطقة وبمشاركة عدد من شركائه المنتشرين جغرافياً من القطب الشمالي إلى بحر العرب.

واضح أنّ هذا التطور بالغ الأهمية، بحد ذاته، ويكتسي أهمية خاصّة بالنسبة لحلف الناتو.

ذلك لأنّ مهمّتنا الرئيسية هي ضمان بقاء حلف الناتو منظمةً فريدة من نوعها للحرية والسلام والأمن والقيَم المشتركة. وقد نجح أعضاء الحلف في إنشاء منطقة آمنة ينعمون فيها بالازدهار والسلام. لكنْ كيف نشعر بالأمان عندما تندلع أزمة كبيرة بالقرب من حدودنا؟

على مدى التاريخ، ارتبط مصير أوروبا بمصير شمال إفريقيا والشرق الأوسط الكبير. فهناك ارتباط وثيق بين اقتصاداتنا وشعوبنا وأمننا أيضاً.

واليوم، نواجه نفس التهديدات: الإرهاب وانتشار أسلحة الدمار الشامل والتعطيل المحتمل لإمدادات الطاقة والتهريب. إنها تهديدات مشتركة تعنينا جميعاً – في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وأوروبا أو أمريكا الشمالية. لذا، يتعيّن علينا أن نتعاون من أجل إزالتها.

وهذا ما ينطبق أيضاً على الأزمة الليبية. فلولا تدخّل حلف الناتو وشركائه في المنطقة لرأينا مزيداً من سفك الدماء من بنغازي إلى البريقة، فضلاً عن انتهاء حركة الحرية في ليبيا. ولولا هذا التدخل لتحوّل الربيع العربي إلى شتاء كئيب.

نحن نريد أنْ يزهر الربيع العربي منطقةً حرّة وديمقراطية وعصرية ومستقرّة. ومن خلال تعزيز تعاوننا، يمكننا جميعاً أنْ نحقق مكاسب سياسية واقتصادية وثقافية متكافئة. ولن يُزهر الربيع العربي بين عشية وضحاها لكنّ إزهاره ممكن. وحلف الناتو يريد أنْ يساهم في ذلك.

وهذا ما يقودني إلى سؤالي الثالث، وهو: كيف يتعاون حلف الناتو مع دول المنطقة من أجل تشكيل المستقبل؟

أولاً: سنواصل جهودنا الرامية إلى إنجاز مهمة الأمم المتّحدة المتمثلة بحماية الشعب الليبي.

فبعد مرور شهرين فقط على إطلاق مهمّتنا في ليبيا، أحرزنا تقدّماً كبيراً وحافظنا على زخمنا وإصرارنا على إنجاز هذه المهمة. فقد قلصنا بشكل كبير قدرة القذافي على محاصرة المدن واستخدام القوة ضدّ المدنيين. وتمكنّا من الحفاظ على حياة الكثير من المدنيين الليبيين.

وفي الحقيقة، صُدمتُ عندما قرأت عن عمران الزوفري؛ وهو رجل من مصراتة في الرابعة والثمانين من عمره. فقد بكى هذا الرجل عندما جاب وسط مصراتة ورأى البنايات التي قصفتها قوات القذافي، ثم قال "لولا أنّ الله أغاثنا بحلف الناتو، لأحرقونا جميعاً".

من الواضح أنّ الحلّ الدائم الوحيد سيكون سياسياً، وليس عسكرياً. لكن التمهيد لهذا الحلّ يتطلب من الحلفاء والشركاء أنْ يواصلوا الضغط المفروض على نظام القذافي. وسنواصل هذا الضغط - طالما اقتضت الضرورة. في الحقيقة، قرر حلف الناتو وشركاؤه اليوم تمديد مهمّتنا في ليبيا تسعين يوماً إضافياً.

إنّ السؤال المطروح الآن ليس حول ما إذا كان القذافي سيرحل أم لا؛ وإنما متى سيرحل. وهذا ما أوضحته مجموعة الإتصال والقمّة الأخيرة لمجموعة الدول الصناعية الثماني الكبرى. ويؤكّد أعضاء الناتو وشركاؤه على صوابية هذا الطرح.

قد يستغرق رحيل القذافي بعض الوقت. وقد يحدث هذا الرحيل غداً.

دعوني أكون واضحاً: أنا لا أرى أي دور رئيسي لحلف الناتو في ليبيا بعد إنجاز العملية التي يقودها هناك بتفويض من الأمم المتحدة. لكنْ عندما يرحل القذافي، ينبغي على المجتمع الدولي أن يساعد الشعب الليبي في ضمان الانتقال السلمي والمنظّم إلى الديمقراطية. كما ينبغي عليه أن يبدأ اليوم بالتخطيط والاستعداد لهذه المساعدة.

ثانياً: إنّ إصلاح الجيش وقطاع الأمن من المقومات الأساسية لبناء الديمقراطية. وسيُمثّل بناء مؤسسات عسكرية وأمنية عصرية وفعّالة وقابلة للمساءلة أولوية فصوى بالنسبة للعديد من دول المنطقة. وحلف الناتو لديه الخبرات والقدرات الكافية للمساعدة في تحقيق هذه الغاية.

لقد أنجز العديد من دول الحلف الإصلاحات اللازمة في مؤسساتهم العسكرية والأمنية بعد ثوراتهم الداخلية قبل أكثر من عشرين سنة. ونحن مستعدّون لتقاسُم هذه التجربة والخبرة الجماعية من أجل مصلحة ليبيا.

وستحتاج ليبيا الجديدة إلى قوات أمنية حديثة وديمقراطية لا تهاجم شعبها، بل تحميه.

لذا، أتصوّر أننا سنساعد في بناء وزارة الدفاع الليبية الجديدة وهيئة الأركان العامة المشتركة وجهاز الأمن القومي هناك. وستكون هذه المؤسسات قابلة للمساءلة من جانب حكومة منتخبة بصورة ديمقراطية في بلد تعرّضت مؤسساته للتدمير الممنهج، على مدى السنوات الأربعين الماضية.

وبطبيعة الحال، تُحدَّد مساعدات حلف الناتو بما يتناسب مع احتياجات الدول التي تتلقاها. وقد تكون عنصراً مكمّلاً لمساعدات أخرى، خصوصاً من جانب الاتحاد الأوروبي والأمم المتّحدة. ويُقدّم الحلف مساعداته بناءً على طلب الدول المعنية بها وبالتعاون الوثيق معها.

أخيراً، نحن مستعدّون للدخول في حوار مكثّف حول القضايا الأمنية. ويزخر سجل التعاون السياسي بين حلف الناتو ودول شمال إفريقيا والشرق الأوسط الكبير بالكثير من النجاحات. ولدينا إطاران للشراكة يجمعان أعضاء الحلف الثمانية وعشرين مع العديد من دول هذه المنطقة: فهناك شركاؤنا في الحوار المتوسطي، مثل الجزائر ومصر وإسرائيل والأردن وموريتانيا والمغرب وتونس؛ بالإضافة إلى شركائنا الأربعة في مبادرة اسطنبول للتعاون: البحرين والكويت وقطر والإمارات العربية المتحدة.

وأكّد الربيع العربي على ضرورة رفع مستوى حوارنا وشراكاتنا. ويدعو مفهومنا الإستراتيجي الجديد إلى مثل هذا التعاون المعزّز.

وقبل عشرين سنة، ظهرت بوادر مستقبل جديد في وسط وشرق أوروبا بعد إنتهاء الحرب الباردة. حينذاك، أسّس حلف الناتو مجلس شمالي الأطلسي للتعاون بهدف تقديم الدعم السياسي والعملي الحيوي إلى دول تلك المنطقة.

والآن، ظهرت بوادر مستقبل جديد في شمال إفريقيا والشرق الأوسط.

لذا، فإننا مستعدون للحوار مع الشركاء ضمن أُطر شراكتنا القائمة وخارجها، الأمر الذي سيسمح لنا بمناقشة مجموعة أكبر من القضايا، بما فيها القضايا التي يرغب شركاؤنا في طرحها على بساط البحث. كما سيسمح لنا بإشراك جميع الأطراف الأخرى المعنية بإعادة الأمن والاستقرار إلى المنطقة.

وستكون ليبيا الديمقراطية شريكاً مرحباً به لحلف الناتو، سواء كانت هذه الشراكة ضمن إطار حوارنا المتوسطي أو خارجه.

أيها السيدات والسادة،

إنّ حلف الناتو مجتمعُ قِـيَمٍ فريد من نوعه. إذ يلتزم جميع أعضائه باحترام حريّة الفرد والديمقراطية وحقوق الانسان وحكم القانون. ونحن نؤمن بأنّ هذه المبادئ عالمية وتصلح لشعوب العالم كافّة، بما فيها شعوب منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط. لذا، يدعم أعضاء حلف الناتو التطلّعات المشروعة لجميع شعوب هذه المنطقة.

لقد ألهمنا الربيع العربي جميعاً. وأظهر حجم الطاقات التي تنتظر تحريرها في هذه المنطقة. وحلف الناتو راغب ومستعد وقادر على المساعدة في تحرير هذه الطاقات.

نحن قادرون على مساعدة دول المنطقة في بناء المستقبل الذي تختاره. لكنْ يستحيل فرض الاستقرار والأمن والازدهار من الخارج. ولا يمكن تحقيق هذه الأمور إلا من الداخل؛ أيْ من خلال تلبية التطلّعات المشروعة لجميع شعوب المنطقة.

ولا يمكن تلبية هذه التطلعات إلا عندما تتمتّع شعوب المنطقة بالقيم العالمية التي نؤمن بها ونصونها، وهي: الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان.

شكراً لكم.