خطاب

لنائب الأمين العام لحلف الناتو، كلوديو بيسونييرو، في المعهد الدبلوماسي الكويتي

  • 27 Jan. 2009
  • |
  • آخر تحديث 06-Dec-2011 17:51

أيها السيدات والسادة،

دعوني أبدأ بالإعراب عن بالغ سروري لتواجدي، هنا، في الكويت للمرة الأولى بصفتي نائب الأمين العام لحلف الناتو. واسمحوا لي بالتعبير عن خالص شكري لمدير المعهد الدبلوماسي الكويتي، سعادة السفير عبد العزيز الشارخ، على تنظيم هذا اللقاء. وقبل أسابيع قليلة فقط، قُمتَ يا سمو الأمير بافتتاح المعهد الدبلوماسي الكويتي الذي يحتضن لقاءنا هذا، وأنا واثق بأننا سنشهد تطوراً متسارعاً لهذا المعهد في ظل قيادتك الحكيمة لأننا شهدنا تطوراً متسارعاً للعلاقات بين حلف الناتو والكويت، خلال فترة عملك كسفير لبلادك في بلجيكا.

لقد كانت الكويت أوّل دولة تنضم إلى مبادرة اسطنبول للتعاون، وذلك في ديسمبر 2004. وفي ديسمبر 2006، كانت الكويت أول دولة في مبادرة اسطنبول للتعاون تُنظم مؤتمراً دبلوماسياً لحلف الناتو على أراضيها بالتعاون مع قسمنا للدبلوماسية العامّة؛ وكان ذلك الحدث ناجحاً بكلّ المعايير. وبلَغني أنّ وزير الخارجية، سموّ الشّيخ الدكتور محمد الصباح، الذي يترأّس معهد الكويت الدبلوماسي، يدرس إمكانية تأسيس قسم للدبلوماسية العامّة في وزارته. ومن شأن تأسيس مثل هذا القسم أنْ يعطي زخماً إضافياً لجهودنا المشتركة التي نبذلها  لإقناع قادة الرأي وصنّاع السياسة ووسائل الإعلام والرأي العام، بضرورة تعاوننا في ظل الظروف العالمية الراهنة.

وأودّ التركيز في هذه الكلمة على ثلاث قضايا. أولاً: أودّ تقديم بعض التأمّلات المتعلقة بالبيئة الأمنية التي نواجهها جميعاً. ثمّ سأحاول الخلوص إلى بعض الإستنتاجات العامّة المستوحاة من هذه البيئة وما تعنيه بالنسبة لحلف الناتو وعلاقاته مع الدول والمنظمات الأخرى. وأخيراً، أودّ أنْ أُطلعكم على بعض الأفكار حول علاقات الحلف المتواصلة التطور مع الكويت ودول الخليج الأخرى.

لذا، دعوني أبدأ بالحديث أولاً عن البيئة الأمنية العالمية. لقد بات الجميع يُدرك أنّ العولمة هي الميزة الرئيسية لعالمنا الراهن. وبصفة عامة، يُعتبر الترابط المتزايد بين دولنا واقتصاداتنا وشعوبنا أمراً جيداً. لكنْ لسوء الحظ، تعوْلمت أيضاً التهديدات الأمنية. وعندما ننظر إلى المشهد الأمني الناشئ، نرى مجموعة كبيرة من الأخطار والتهديدات التي لا تُحدق بدول أو مناطق بعينها وحسب، وإنما تُحدق بنا جميعاً.

أولاً: الدول الفاشلة. في كلّ سنة، تنشر المجلة الأمريكية " Foreign Policy(السياسة الخارجية)" ما تدعوه "مؤشّر الدول الفاشلة". وفي عام 2008، حدّد هذا المؤشّر ما لا يقل عن 32 دولة فاشلة. وحتى إذا كان هذا العدد مبالغاً فيه ولم تتحوّل كلّ دولة فاشلة إلى مشكلة أمنية حقيقية لبقيّة العالم، فإنّ الرسالة واضحة وهي: إنّ مشكلة المناطق المحلية غير الخاضعة لسلطة الدولة والتي قد تهدّد الأمن الإقليمي وما وراءه لا تقتصر على أفغانستان ما قبل الحادي عشر من سبتمبر، ولن تختفي خلال العقد القادم. وفي بعض الحالات، على الأقل، سيكون التدخّل الخارجي ضرورياً لمنع تفاقم هذه المشكلة.

أما التحدي الثاني، فهو القوّة المتزايدة للأطراف غير الرسمية. فأحد الجوانب المظلمة للعولمة هو تسهيل حصول العناصر المتعصّبة على تقنيات ذات قوّة تدميرية هائلة. وللأسف الشديد، بات من الممكن حدوث هجوم إرهابي بسلاح إشعاعي. إلى ذلك، تعرّضت البنى التحتية المعلوماتية في العديد من الدول لهجمات إلكترونية. بالتالي، بات من الواضح أنّ الأطراف غير الرسمية الراغبة في زعزعة استقرار بلد ما لا تعتمد على القوة العسكرية فقط.

ويتمثّل التحدي الثالث بانتشار أسلحة الدمار الشامل. فنظام منع انتشار الأسلحة النووية يتآكل أمام أعيُـننا. إذ تهدّد كوريا الشمالية ميزان القوى الهشّ في آسيا. كما أنّ أنشطة إيران في مجال تخصيب اليورانيوم وبرامجها لتطوير الصواريخ البالستية تثير قلقاً متزايداً في هذه المنطقة ولدى دول الناتو كافّة. ومع أنّ حلف الناتو لا يشارك في العملية الدبلوماسية التي تقودها الأمم المتّحدة لحلّ هذه القضية، إلا أنّ دول الحلف رحبت بهذه العملية وتسعى إلى تعزيزها.

وحتى في حال إيجاد تسوية مرضية للملفيْن النووييْن الإيراني والكوري الشمالي، فإنّ انتشار التقنية والمعرفة النوويتتيْن سيستمرّ. كما أنّ تراجع الإحتياطي العالمي من الوقود الأحفوري أدى إلى عودة الاهتمام بالاستخدامات السلمية للطاقة النووية – ولضمان الاستخدام الآمن والموثوق به لهذه التقنية، لا بدّ من تعزيز النظام الدولي لمنع انتشار الأسلحة النووية.

وهذا ما يقودني إلى الحديث عن التحدي الرابع: إنه الطلب المتزايد على الطاقة. فقد شهدت السنوات القليلة الماضية نموّاً مضطرداً في الطلب على موارد الطاقة؛ ولا شكّ في أنّ هذا الإتجاه سيستمر في السنوات المقبلة، خصوصاً أنّ الصين والهند ستحتاجان لاستيراد كميات متزايدة من النفط والغاز لتلبية متطلبات النمو المتسارع لاقتصاديْهما – ناهيك عن نمو طلب العديد من الدول الأخرى على الطاقة؛ وهذا ما يُعزز أهمية أمن الطاقة – ليس فقط بالنسبة للدول المستوردة لها، كغالبية دول حلف الناتو، بل أيضاً بالنسبة للدول المصدّرة لها، مثل الكويت، فضلاً عن دول العبور.

هذه، بإيجاز، بعض الخصائص والتحديات الرئيسية التي تشكّل البيئة الأمنية العالمية الراهنة. وللوهلة الأولى، أعتقد أنكم تروْن أنّ هذه البيئة لا تدعو للتفاؤل. فكيف ينبغي علينا أنْ نردّ على هذه التحديات؟ في عالمنا المتعوْلم بوتيرة متسارعة، يستحيل وضع خطة مثالية لضمان الأمن. مع ذلك، أرى أنّه يُمكن تحديد بضعة مبادئ أساسية تساعدنا في تنظيم جهودنا.

المبدأ الأول: ينبغي على الإستراتيجية الأمنية للتعامل مع التحديات التي تحدّثتُ عنها للتو أنْ تمتاز بالمبادءة، لا بردّ الفعل. ففي الماضي، ربما كانت المقاربة السلبية أو تلك القائمة على ردّ الفعل كافية؛ أما اليوم، فإما أنْ نعالج التحديات الأمنية عندما وحيثما تظهر، وإما أنْ تهدّدنا في عقر دارنا. لقد ردّ حلف الناتو على هذه الحقيقة الجديدة من خلال الدور الفاعل الذي بات يُميّزه اليوم. وهذا واضح للعيان من طبيعة مهماتنا وعملياتنا، في المقام الأول.

وفي هذا السياق، نشير إلى أن الحلف ينشر حالياً أكثر من ستين ألف جندي في أفغانستان وحدها بتفويض من مجلس الأمن الدولي، وذلك لدعم حكومة الجمهورية الإسلامية الأفغانية وتوفير الأمن لضمان التنمية والتطور الديمقراطي هناك. كما أننا نتولى مهمة حفظ السلام في كوسوفو. وتقوم سفن الحلف بدوريّات في البحر الأبيض المتوسط ضمن إطار مهمّة مكافحة الإرهاب. ونواصل أيضاً تدريب وتجهيز قوّات الأمن العراقية ونستكشف آفاق بناء علاقات أمنية طويلة الأمد مع هذا البلد. وساهمنا في الجهود التي يبذلها الإتحاد الإفريقي لحفظ السلام في السودان والصومال كما ساهمنا في تعزيز قدراته. ووفّرنا مؤخراً الحماية لشحنات مواد الإغاثة الإنسانية ومجمل الملاحة البحرية من أعمال القرصنة قبالة السواحل الصومالية.

وكما أسلفت، تُعدُّ هذه العمليات والمهمات دليلاً واضحاً على مقاربة حلف الناتو للبيئة الأمنية الجديدة -  لكنْ هناك المزيد. إذ ندرك تماماً أنّ القدرات العسكرية وحدها وحلف الناتو، بحدّ ذاته، لا يكفيان لمواجهة العديد من التحديات الماثلة أمام دولنا.

وهذا ما يقودني إلى المبدأ الثاني لضمان الأمن في المرحلة الراهنة: ضرورة التعاون المؤسساتي. إذ تفتقر أي دولة أو مؤسسة بمفردها لجميع القدرات اللازمة لإدارة الأمن بفاعلية. لذا، ينبغي استخدام الأدوات السياسية والإقتصادية والعسكرية وسواها في إطار مقاربة شاملة. وهذا ما ينطبق بوجه خاص على أفغانستان لأنّ الوسائل العسكرية وحدها لا تكفي لحلّ مشكلات هذا البد. ويتمثّل مفتاح هذا المقاربة الشاملة بتعزيز التعاون بين مختلف المؤسسات المتعددة الأطراف.

ويؤمن حلف الناتو بهذا المنطق إيماناً راسخاً. لذا، يعمل الحلف بجدّ على بناء علاقات أوثق مع العديد من الأطراف الدولية الأخرى. لكنّنا نولي اهتماماً خاصاً لبناء شراكات استراتيجية حقيقية مع الإتحاد الأوروبي والأمم المتّحدة. وخلال السنوات العشر الماضية، أصبح حلف الناتو "مسهّلاً" رئيسياً لتنفيذ العديد من المهمات والعمليات التي أقرّتها الأمم المتحدة. وفي أواخر العام الماضي، وقّع الأمين العام للأمم المتحدة والأمين العام لحلف الناتو على إعلان مشترك نأمل منه أنْ يُعزز تعاوننا في عدد كبير من القضايا، وأنْ يُمهد السبيل لتعزيز تعاون الحلف مع المنظمات الإقليمية، مثل الإتحاد الإفريقي وجامعة الدول العربية.

أما المبدأ الثالث لإدارة الأمن في القرن الحادي والعشرين، فهو الشراكة. إذ يوجد العديد من التحديات الراهنة التي تواجهها دولنا جميعاً. والتعاون هو مفتاح النجاح في معالجتها. وخلال السنوات الخمس عشرة الماضية، طوّر حلف الناتو علاقات مع عشرات الدول في أوروبا وآسيا وحوض المتوسط وما وراءه. واليوم، تُتيح هذه الشبكة الواسعة من العلاقات لأعضاء وشركاء الناتو فرصاً فريدة للتعاون - من المشاورات السياسية إلى المشاركة في العمليات التي يقودها حلف الناتو.

ومنذ قرابة خمس سنوات، أُتيحت هذه الفرص التعاونية أيضاً أمام دول منطقة الخليج من خلال مبادرة اسطنبول للتعاون. وكما أسلفتُ، كانت الكويت أوّل دولة لخليجية تنضمّ إلى مبادرة اسطنبول للتعاون، ثم تلتها قطر والبحرين والإمارات العربية المتحدة. ويسرّنا أنّ الكويت عملت على تحقيق المنفعة القصوى من مبادرة اسطنبول للتعاون.

وخلال السنوات الأربع الماضية، تعززت مشاوراتنا السياسية بثبات، خصوصاً بعد مؤتمر الدبلوماسية العامة لمبادرة اسطنبول للتعاون الذي استضافته مدينة الكويت في ديسمبر 2006، والذي سبق التنوييه به. كما أنّ المحادثات التي أجريتها اليوم مع مختلف المسؤولين الكويتيين أكّدت مجدداً على تصميمهم على مواصلة تطوير علاقاتنا. ولا يسعني إلا أنْ أرحب بهذا التوجه مع التأكيد على التزام حلف الناتو به.

لقد ركّز معظم تعاوننا العملي في الماضي على العلاقات العسكرية الثنائية. أما اليوم، فإنه يغطّي العديد من القضايا الأخرى، كمكافحة الإرهاب وحماية أمن الحدود والتعليم والتدريب العسكرييْن والتخطيط للحالات المدنية الطارئة. وكانت الكويت أول دولة في مبادرة اسطنبول للتعاون تُعيّن ضابط اتّصال في سفارتها في بروكسل مهمته الوحيدة هي التعامل مع القضايا المتعلقة بحلف الناتو. وكانت أيضاً أول دولة في مبادرة اسطنبول للتعاون توقّع على اتفاقية لأمن المعلومات السرية مع حلف الناتو وتحصل على الشهادة الأمنية من الحلف. وبالتعاون مع الكويت، نظم الحلف في مايو 2007، مؤتمراً حول التلوّث الإشعاعي في منطقة الخليج حيث تبادل خبراؤنا وجهات النظر حول كيفية حماية المدنيين في حال حدوث كارثة نووية. وفي نوفمبر من العام الماضي، زار عدد من سفن المجموعة البحرية الدائمة الثانية لحلف الناتو دولة الكويت لإجراء مناورات مشتركة.

وتُعدُّ الدبلوماسية العامّة مجالاً مهماً آخراً من مجالات التعاون العملي. ومنذ إطلاق مبادرة اسطنبول للتعاون، تم تنظيم خمسة مؤتمرات دولية من جانب قسم الدبلوماسية العامة لحلف الناتو ومؤسسات محليّة في جميع دول مبادرة اسطنبول للتعاون، بالإضافة إلى المملكة العربية السعودية. وإلى جانب الأنشطة الأخرى شبه اليومية، تُعدّ هذه المؤتمرات مؤشرات واضحة على نجاعة جهودنا المشتركة في مجال الدبلوماسية العامّة لتعزيز التفاهم المتبادل. لكننا ندرك أنّه بإمكاننا فعل المزيد في هذا المجال ونحن مستعدّون للتعاون الفاعل على هذا الصعيد.

وتبرهن هذه الأنشطة على أنّ العلاقات بين الكويت وحلف الناتو وثيقة وتسودها الثقة المتبادلة. ولإعطاء هذه العلاقات مزيداً من القوة والزخم، أعتقد أنّه بإمكان الكويت أنْ تدرس إمكانية تطوير برنامج للتعاون الفردي مع الحلف لأنه يمأسس ويُعزز تعاوننا.

إذاً، نحن أمام عالم يمتاز بالعولمة وببيئة أمنية عالمية متغيّرة جعلت أمن جميع دولنا متشابكاً. كما أنّ الإستقرار الهشّ في العراق واستمرار طموحات إيران النووية والنزاع الإسرائيلي - الفلسطيني العالق وتزايد أعمال القرصنة والدور المحوري لهذه المنطقة في مجال الطاقة وعوامل أخرى، تجعل من المستحيل النظر إلى أمن كلّ واحدة من دولنا بمعزل عن أمن باقي الدول الأخرى. وهذه هي الفلسفة الأساسية التي تحكم تعزيز علاقات حلف الناتو مع الكويت وشركائه الآخرين في منطقة الخليج.

أيها السيدات والسادة،

دعوني أختتم هذه الكلمة بالإشارة إلى أنّ حلف الناتو سيحتفل بعد بضعة أشهر بالذكرى السنوية الستّين لتأسيس أنجح حلف في التاريخ، وذلك في قمّة ستراسبورغ وكيل Kehl، الواقعتيْن في فرنسا وألمانيا. ويكمن سر النجاح المستمر لهذا الحلف في حقيقة أنّه مختلف عن باقي الأحلاف الأخرى. فحلف الناتو يوفّر إطاراً دائماً للحوار والتشاور السياسييْن واتّخاذ القرارات الفعّالة عبر الأطلسي. كما يوفّر بنية عسكرية متكاملة وقادرة على دعم وتطبيق هذه القرارات السياسية عندما وحيثما تقتضي الضرورة.

لكنْ ثمّة سبب آخر لنجاح هذا الحلف وهو مفهوم معالجة التحديات الأمنية بصورة جماعية. وفي الماضي، كان تطبيق هذا المفهوم مقتصراً على أعضاء الحلف. أما اليوم، فإنّ الروح المشتركة للتعاون الأمني تمتد إلى أبعد بكثير من حدود منطقة أوروبا الأطلسية لأنها وصلت بالفعل، إلى منطقتيّ حوض المتوسط والخليج العربي وما وراءهما.

وكما برهنت القمّة العربية الأخيرة التي عُقدت في هذه المدينة، فإنّ الكويت دولة ملتزمة بالمساهمة في الحفاظ على الأمن - ليس في منطقتها وحسب، بل خارج منطقتها أيضاً. لذا، لا يساورني أدنى شك في أننا نستطيع الاستمرار في الاعتماد على اهتمام الكويت الشديد ودعمها القيم لجهود حلف الناتو الرامية إلى تعزيز هذه الروح الجديدة للتعاون الأمني.

شكراً لكم.